قبل عام من مجيء ألبرت أينشتاين( Albert Einstein) بنظرية النسبية الخاصة (Special Relativity)، أو E=m∗c^2، تنبأ علماء الفيزياء بوجود شيء آخر: وهو إشعاع السيكلترون (Cyclotron Radiation)، فقد تنبأ العلماء بصدور هذا الإشعاع عن الإلكترونات التي تتحرك على طول مسارات دائرية داخل حقول مغناطيسية مُحتجزة داخلها، وعلى مدار القرن الماضي، فقد رصد العلماء هذا الإشعاع في كل التجمعات الكبيرة للإلكترونات، إلا أنهم لم يستطيعوا رصده لكل إلكترون بشكلٍ منفرد، أو على الأقل حتى الآن.
في عدد 20 أبريل/نيسان من مجلة "Physical Review Letters"، صرّحت مجموعة مكونة من 30 عالم فيزياء ومهندس من ستة معاهد أبحاث باكتشافها المباشر لإشعاع سيكلتروني صادر عن إلكترونات مفردة، ولتحقيق ذلك، استخدم العلماء طريقة تحليل طيفي مُطوّرة خصيصاً سمحت لهم بقياس طاقة الإلكترونات -إلكترون وحيد في كل لحظة.
وإلى جانب الإثارة المترافقة مع اكتشاف هذا الإشعاع القادم من جسيم أساسي مشحون ،هو الإلكترون، فهذه الطريقة تُقدم نهجاً جديداً لقياس كتلة النيوترينو (Neutrino) ، وهو جسم دون ذري يبلغ وزنه جزأين من مليار من كتلة البروتون.
يقول عالم الفيزياء برينت فاندفندر (Brent VanDevender)، وهو رئيس المجموعة من المختبر الوطني شمال غرب المحيط الهادئ والتابع لوزارة الطاقة: "من بين أكبر مشاكل الفيزياء في عصرنا الراهن هي عدم معرفتنا بكتلة النيوترينو". ويُضيف: "إن الكون مليءٌ بالنيوترينوهات، فهناك الكثير منها وبالتالي من المهم لنا معرفة وزنها، وحتى بوزنها المُقدّر بحوالي جزأين من مليار من كتلة البروتون، فكتلتها ستفوق كتلة كل المادة العادية الموجودة في الكون كالنجوم، الكواكب والغبار، وستؤثر على تشكل الهياكل العملاقة في كوننا مثل العناقيد المجرية (Galaxy Clusters)".
داخل الذرة
يحاول الفيزيائيون فهم بعض أصغر الأجزاء في الكون، حيث أن الذرات النموذجية، التي تُكوّن كل المادة، تحتوي على نواة محاطة بسحابة من الإلكترونات، وهذه النوى تحتفظ بجسيمات مشحونة إيجاباً وتُعرف بالبروتونات (Protons) وجسيمات حيادية تُعرف بالنيوترونات (Neutrons)، وهذه الجسيمات هي التي تشكل وزن الذرة، أما الإلكترونات فهي جسيمات مشحونة سلباً وتقوم بالدوران حول النوى.
قد تبدو هذه الجسيمات غير مرتبطة ببعضها البعض، إلا أن النيوترونات قد تتفكك في بعض الأحيان لتتحول إلى بروتونات عبر ما يُعرف بتفكك بيتا (Beta Decay)، ويُخلف هذا التفكك وراؤه بروتوناً وإلكتروناً، بالإضافة إلى جسيم صغير جداً وحيادي يُعرف بالنيوترينو الذي يتحرك في كل أرجاء الكون.
ولأنها صغيرة جداً ولا تحمل أي شحنة، فمن الصعب جداً قياس النيوترينوهات، وقد تمكن العلماء مؤخراً من تحديد الحد الأعلى للكتلة التي قد يمتلكها النيوترينو، ولعل مقارنة كتلة النيوترينو مع كتلة النيوترون تماثل مقارنة حجم طفل صغير بحجم هرم الجيزة العظيم.
في الوقت الحالي، هناك العديد من المساعي الرامية إلى كشف وقياس كتلة النيوترينو بشكلٍ مباشر، ومنها تجربة الفيزياء النووية كاترين (KATRIN ) في ألمانيا، وهي جهود عملاقة تُجند مئات الباحثين وتقوم ببناء أجهزة تحليل يصل حجمها إلى حجم منزل، ومع ذلك، تظل هناك فرصة أمام تملص النيوترينو من الكشف عنه بواسطة تجارب كهذه جراء تمتعه بالصغر الكافي لذلك.
قبل حوالي خمس سنوات، قام باحثين مشاركين في الدراسة الحالية باقتراح إمكانية تناول المسألة من ناحية أخرى عبر قياس الإشعاع السيكلتروني للإلكترونات بدلاً من كشف النيوترينوهات أو حتى الإلكترونات بشكلٍ مباشر، فذلك يساهم في الكشف عن طاقة الإلكترون، فإذا ما تمكّن الباحثون وبدقة كافية من قياس الإلكترونات الصادرة أثناء تحول نظير الهيدروجين "التريتيوم" إلى الهليوم-3 نتيجة لتفكك بيتا، فعندها يستطيعون تأكيد كتلة النيوترينو عبر إضافة طاقات الهليوم-3 والإلكترون، ومقارنتها بطاقة ذرة التريتيوم، وإذا لم يتطابق مجموع الطاقات مع الطاقة الكاملة لذرة التريتيوم، فلا بدّ وأن الفرق يُمثل كتلة النيوترينو.
قياس الكتلة بالاعتماد على الطاقة؟
نعم، هذا ممكن بفضل أينشتاين والنسبية الخاصة، لأنّ الكتلة والطاقة مرتبطان، يستطيع الفريق قياس طاقة الإلكترونات ومن ثم الحصول على الكتلة، وبعد جمع عشرات من المتعاونين في المشروع 8، طوّر الفريق طريقة جديدة تُعرف بالتحليل الطيفي لإصدار إشعاع السيكلترون (Cyclotron Radiation Emission Spectroscopy) وذلك بقصد قياس تلك الكتلة، وفي الدراسة الحالية، فقد برهن العلماء على صحة هذه الطريقة (CRES).
يصل طول الجهاز الذي طوّره الفريق إلى طول بضعة براميل نبيذ موضوعة فوق بعضها البعض، وهي أصغر بكثير من حجم منزل، ولزيادة احتمالات نجاحها، فقد بدأ الفريق العمل بوجود أفضل الظروف الممكنة، حيث اختاروا ذرة تُقدم لهم معلومات طيفية واضحة وسهلة القراءة، وقد كانت تلك الذرة شكلاً من أشكال الكريبتون المعروف بالكريبتون-83 شبه المستقر، وهي تتفكك وتُعطيهم الكثير من الإلكترونات التي يُمكنهم أسرها داخل حقلهم المغناطيسي.
وبعد احتجاز إلكترونات مفردة داخل الحقل، قاموا بقياس مدى سرعتها على طول مساراتها الدائرية، ما قادهم إلى معرفة طاقة الإلكترون، وقد كانت الطاقة التي قاسوها مساوية للمتوقعة وبلغت 30.4 كيلو إلكترون فولت، كما بلغت دقة قياس الهدف 0.05% وهي ليست قوية بشكلٍ كافٍ لتأكيد كتلة النيوترينو، إلا أنها بداية جيدة جداً.
يقول فاندفندر: "إن كتلة النيوترينو صغيرة جداً ولذلك يجب أن يكون التحليل الطيفي في غاية الإتقان، وفي النهاية يجب أن نصل إلى دقة أفضل بعشرة أضعاف". ويتابع بأنه لا يتوقع وصولهم إلى دقة كافية لقياس النيوترينو باستخدام هذه التجربة الأولية، ولذلك فإنّ النتائج الأكثر إثارة الآن ستكون في اكتشاف إشعاع السيكلترون.
يقول فاندفندر: "لم يشك أحد في وجودها، لكن من الجميل أن تكون أول من رصد ظاهرة أساسية من ظواهر الطبيعة. إنه تنبؤ استمر معلقاً منذ العام 1904 وتطلب الأمر 110 عام لتأكيد وجوده عند مستوى الجسيمات الأساسية منفردةً".
اختبار بيتا
تنبأ فاندفندر أنّ الوصول إلى قياس لكتلة النيوترينو هو أمر يتطلب عقداً آخر، ولكن قد تكون تجربة كاترين أولى التجارب لقياس وزن النيوترينو. أما بالنسبة للفريق، فتكمن الخطوة التالية في إعادة تجارب الكريبتون لكن مع عنصر التريتيوم.
وحالما يتقنون ذلك، سيتمكّنوا من معرفة كيفية زيادة قدرة القياس لاستيعاب كمية أكبر من التريتيوم الموجود في أحجام أكبر للحصول على المعلومات التي يحتاجونها لتحديد كتلة النيوترينو.