بقي ما يجعل شمسنا تتألق لغزاً على مدى التاريخ البشري. وعلى اعتبار أن الشمس هي نجم، وأن النجوم هي شموس* فإن شرح مصدر الشمس للطاقة سيُساعدنا في فهم لماذا تتألق النّجوم.
قدَّم الفيلسوف الإغريقي أناكساغوراس Anaxagoras تفسيراً مُبكراً لسبب تألُّق الشمس. ففي حوالي العام 450 قبل الميلاد اعتقد بأن الشمس تتألق لأنها حجرٌ حارٌ مُحمَر.
وفي منتصف القرن التاسع عشر قدَّر الفيزيائي الألماني يوليوس ماير Julius Mayer بأن الشمس لو كانت قطعةً عملاقةً من الفحم المحترق، فسيكون بمقدورها التألق لبضعة آلافٍ من السنين وحسب. وعليه فإنه صار من المقبول أن أي شكلٍ من أشكال الاحتراق لم يكن مُلائماً.
اعتقد كلٌ من ماير وعالم المساحة المائية (Hydrography) الإسكتلندي جون واترسون John Waterston أن الشمس تتزود بالطاقة من خلال تحرير الطاقة الثّقالية الناتجة من صدم النيازك لها. كذلك اقترح واترسون أن الطاقة الثّقالية يمكن أن تأتي من تقلصٍ بطيءٍ للشمس. تم إسقاط هذه الفكرة من الاعتبار في أيامنا هذه بالنسبة للشمس، لكنها تبقى الوسيلة التي تستطيع بها جميع النجوم أن تتألق أثناء تشكُّلها.
وفي وقتٍ لاحقٍ من القرن التاسع عشر، سعى الفيزيائي الشهير اللورد كالفين Lord Kelvin وهيرمان فون هلمهلوتز Hermann von Helmholtz وراء فكرة الانكماش الثّقالي. لكن بقيت مُشكلة أن الشمس لن يكون بإمكانها التألق بهذه الطريقة سوى بضعة عشراتٍ من ملايين السنين. ولا تُشكل هذه المدة سوى جزءٍ صغيرٍ من عمر الأرض بحسب تقديرات الدراسات الجيولوجية، وسرعان ما تمت معارضة هذه الفكرة عندما تمت مراجعة عمر الأرض وزيادة التقديرات.
العهد الذري
--------------
تبدلت الأوضاع مع قدوم القرن العشرين وتقدم ما عُرف باسم "الفيزياء الحديثة" التي سمحت بفهم بنية وسلوك الذرات. ويشمُل هذا أعمال ألبرت أينشتاين المتضمنة المُعادلة الشهيرة بين الكتلة والطاقة E = M*C^2.
اقترح البعض التّفكك الإشعاعي radioactive decay كمصدر لطاقة الشمس، غير أن الغياب النّسبي للذرات اللازمة كان مضاداً لهذا التفسير.
وبدلاً من ذلك، كانت العودة إلى أعمال الفيزيائي والكيميائي البريطاني فرانسيس أستون Francis Aston الذي أظهر أن أربعة ذرات هيدروجين [المكونة من أربعة نكليونات] لها كتلة تزيد عن كتلة ذرة الهليوم [التي تحوي أيضًا أربعة نكليونات]. قاد هذا الاكتشاف الفيزيائي الفلكي آرثر إدينغتون Arthur Eddington إلى الافتراض بأن ذرات الهيدروجين في الشمس تتحول إلى هليوم. عملية اندماج ذرات الهيدروجين لتشكيل ذرة الهليوم سينتج عنها فرق في الكتلة ما بين المواد قبل التفاعل والمواد بعد التفاعل، وهذا الفرق في الكتلة سيتحول إلى طاقة. وبالنظر إلى المخزون الكبير الذي قد تكون الشمس تمتلكه من الهيدروجين، فإن هذا التفاعل سيكون كافياً لإبقاء الشمس متقدةً لمليارات السنين.
لقد استغرق الأمر سنواتٍ تلت نفاذ البصيرة الذي قدَّمه إدينغتون حتى تم بناء نظريةٍ توضح الكيفية التي تتصادم بها ذرات الهيدروجين داخل الشمس والنجوم الأخرى لتصدر الطاقة.
وفي أواخر الحرب العالمية الثانية أصبحت هذه النظرية واضحةً بناءً على أعمال علماء مثل جورج غاموف George Gamow وروبرت آتكينسون Robert Atkinson وفريتز هوتِرمانس Fritz Houtermans وإدوارد تِلِر Edward Teller ومن بعدهم كارل فون فايزساكر Carl von Weizsacker وهانز بيتِه Hans Bethe.
عملية اندماج ذرات الهيدروجين داخل الشمس - أو غيرها من النجوم - هي عملية مُتعددة الخطوات، وتتضمن سلسلةً من التّصادمات لذرتين معاً، ويُمكن أن تكون التصادمات لأكثر من ذرتين، لثلاثة أو حتى أربعة ذراتٍ في حدثٍ واحدٍ معاً، لكن احتمال ذلك قليل.
إضافةً لذلك، تُولِّد النجوم الطاقة من خلال اندماج الهيدروجين وتحوُّله إلى هليوم بطريقتين. تكون العملية السائدة في النجوم ذوات الكتل التي تفوق كتلة الشمس هي "دورة CNO" التي تنخرط فيها ذرات من الكربون والنتروجين والأوكسيجين. أما في النّجوم المُماثلة للشمس، تكون العملية المُسيطرة هي تفاعل "بروتون-بروتون" المُتسلسل.
أين الدليل؟
-------------
في العلوم، تُعطي النّظريات تنبُّؤاتٍ تخضع للاختبار عن طريق التّجارب والأرصاد، وتتنبأ سلسلة بروتون-بروتون بأن الجُسيمات دون الذرية المُسماة النيوترينوات Neutrinos ستفيض خارجةً من الشمس وستكون قابلةً للكشف هنا على الأرض.
لكن النيويرينوات الشمسية هي جُسيماتٌ يصعُب رصدها كونها لا تتآثر (تتبادل التأثير) مع المادة إلا بالقوة النووية الواهنة Weak Nuclear Force. ومُعظمها يعبر أجسادنا والأرض بأكملها دون أية إعاقة.
ومع ذلك فإنه من الممكن بناء مرصد للنيوترينوات، باستخدام غرفة عِملاقة مملوءة بالسائل ومدفونة تحت الأرض، تُكتشف فيها النيوترينوات بوساطة ومضات عَرَضية من الضوء الناجم عن تصادم النيوترينو مع ذرة السائل.
عندما شَرَعت فرقٌ عديدة بالبحث عن النيوترينوات الشمسية في الستينيات وما بعدها، كانت المفاجأة كبيرةً باكتشافهم نيوترينوات أقل مما هو متوقع لتصل إلى النصف أو حتى الثلث. أين كان الخطأ؟ أهناك حاجةٌ لنظريةٍ جديدة؟
جاء حل لغز النيوترينوات الشمسية من طرف فلاديمير غريبوف Vladimir Gribov وبرونو بونتِكورفو Bruno Pontecorvo. فقد وجدا أن النيوترينوات تهتز ما بين حالاتٍ مختلفة، لم تكن جميعها قيد الرصد في المراصد الموجودة.
نتج عن العمل الذي أُنجز في مرصد كاميوكاند الفائق Super-Kamiokande للنيوترينوات في اليابان الكشفُ عن هذه الاهتزازات في منتصف التسعينيات. ودعم هذا الاكتشاف تصوُّرنا الأساسي عن الشمس بأنها مُفاعل اندماج هيدروجين بتفاعل بروتون-بروتون مُتسلسل يزوِّد الشمس بالطاقة لتمنحنا أشعتها بلا حدود.
وعلى الرغم من التّقدم العلمي الذي حصل خلال الأعوام، فإن الخطوات الأولية الأساسية في عملية اندماج الهيدروجين في الشمس يعوزها الدليل الرصدي المباشر، حتى الآن!
اكتشاف جديد
-----------------
أعلن فريقٌ من مرصد بورِكسينو Borexino للنيوترونات في إيطاليا، من خلال ورقةٍ نُشرت في دورية Nature، عن اكتشاف نيوترينوات مُنخفضة الطاقة نتجت عن التفاعل النووي الذي يَقدح توليد طاقة الشمس.
هذا الاكتشاف على درجةٍ من الأهمية كونه يُشير إلى أن هذه النيوترينوات المُسماة "pp neutrinos" [أي النيوترينوات الناتجة عن تفاعل بروتون-بروتون متسلسل] تُشكِّل الأغلبية الساحقة من النيوترونات المتولِّدة داخل الشمس. وهذا يُدلِّل على أن 99% من طاقة الشمس تنتج عن تفاعل بروتون-بروتون المتسلسل.
بهذا يُوضِّح العلم طبيعة توليد الطاقة الشمسية، ويُعزز الصورة العامة بأن النجوم مصانع نووية ضخمة تُحوِّل عنصراً إلى آخر.
إن الفيزياء [التي تدرس] ما يجعل الشمس تتألق والنّجوم تلمع تُعمِّق فهمنا بأصول نظامنا الشمسي وكوكبنا، بل حتى أنفسنا. فكما كان الفلكي كارل ساغان Carl Sagan سيقول بأننا جميعًا "مَصنوعون من النجوم".
ففي حين أن الانفجار الكبير جعل الهيدروجين والهليوم وافرين إلى هذا الحد في الكون، فإن النّجوم هي من تولَّت أساساً توليد بقية عناصر الجدول الدوري. وهي التي صنعت الذرات التي تُشكل اليوم كوكبنا وذواتنا.
إن نفاذ البصيرة الأخير الذي قدمه مجموعة مرصد بورِكسينو حول شمسنا لهُو خطوةٌ في الطريق الطويل، الذي صار اليوم واضح المعالم بفضل العلم، والواصل بين بداية كوننا وحاضرنا الراهن هنا على الأرض.
(*)- الشمس هو اسم علم للنجم المركزي لمجموعة الكواكب التي ننتمي إليها. وعليه ليس هناك "شموس" بل هي نجوم، مَثلها مَثل الشمس.
المصدر : الفيزيائيون The Physicists