فقدان الذاكرة هو أشبه بفقدان جزء من حياتنا ما هو شعور أن يفقد المرء ذاكرته بعد إصابته في الدماغ، او تعاطيه للمخدرات، أو بعد الممارسة الجنسية؟ هنا نقدم لكم التقرير الذي تم طرحه حول تلك الحالات الغريبة لفقدان الذاكرة، والذي قام به كريستيان جاريت “Christian Jarrett”.
في صباح يوم من الايام من سنة 2008، صحت ناعومي جايكوبز ”Naomi Jacobs“ التي تبلغ 32 عاماً من نومها وهي لاتتذكر مالذي حدث معها خلال 17 سنة الماضية، في الحقيقة تقول جايكوبز أن أخر ما تتذكره هو ذهابها إلى النوم كمراهقة في ذلك السرير الذي تتشاركه مع اختها، وحينها كانت تفكر في امتحان اللغة الفرنسية. بعد مرور ثمانية أسابيع من فقدانها الذاكرة تسترجع ذاكرتها. وقبل أن يحدث هذا تقول جايكوبز إنه كان عليها أن تتأقلم مع القرن الواحد والعشرين كما لو كانت تعيشه وهي في الخامسة عشر. هذا يعني أن عليها أن تتدرب على استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل الهواتف الذكية، ومن أصعب الامور والحقائق التي اضطرت إلى مواجهتها أنه كان لديها صبي في العاشرة من عمره.
قصة جايكوبز التي لاتصدق ستنشر تفاصيلها في كتابها القادم تحت عنوان الفتاة المنسية، وقد قامت وكالة اخبار”BBC” بنشر لقاء معها حول هذا الموضوع.
ذكريات غير مترابطة
من وجهة نظر الطب، يعتبر فقدان ذاكرة جايكوبز حالة من فقدان الذاكرة الفصامي، هذا يعني أنه لايوجد تفسير لسبب فقدانها ذاكرتها بشكل مؤقت ولم تتذكر مامر بها خلال 17 سنة الماضية. يعتبر فقدان الذاكرة الفصامي كنتيجة لحالة نفسية كالتوتر او التعرض لصدمة نفسية حادة. بناءاً على هذا تقول جايكوبز أنها خلال هذه السنوات 17 الماضية قد فقدت
عملها وتعاطت المخدرات، اضافة لهذا فلقد تعرضت في الماضي عندما كان عمرها ستة اعوام للإغتصاب، وقد حاول صديقها خنقها عندما كان عمرها 20 عاماً.
تشخيص مرض فقدان الذاكرة الفصامي قد اثار جدلاً، فبعض العلماء مثل الطبيب النفسي هاريسون بوب “Harrison pope“في جامعة هارفرد، يؤكد أنه فعلا موجود. كما تمت الاشارة إلى إنه لم يتم تسجيل اي حالة مرضية في السجلات التاريخية حتى عام 1800. بعض من العلماء يعتقدون أن الاضطرابات الفصامية، (والمتضمنة اضطراب الشخصية، والذي كان يعرف باضطراب الشخصية المتعددة)، عادة لايكون سببها نتيجة لتكيف المريض بعد التعرض لأثار الصدمة، بل أن الامر يكون اكثر من هذا فالمريض يحاول أن يعرف كيف يجب أن تكون شخصيته وكيف يتصرف فهو لايعرف من هو، هذا الشيء دفع ببعض المعالجين إلى وضع صورة تخيلية قريبة ومناسبة للمرض.
ولكي تكتمل الرؤية، المريض الذي تم تشخيصه باضطراب الذاكرة الفصامي يكون عادة مصاب بإضطراب الشخصية المتعددة، وعدم الاستقرار العاطفي. كما يميل إلى رؤية الاوهام والخيال. في الوقت الذي كانت فيه جايكوبز فاقدة لذاكرتها، كانت تدرس علم النفس، والذي عن طريقه عزز معلوماتها عن تآثير الصدمات على الذاكرة وايضاً عن طريقة عمل الذاكرة. وفي مقابلة معها في(Sunday times)، قالت “أنها الان لديها وعي وفهم اكثر لكيفية عمل العقل والذاكرة”، واضافت”انا اعلم الان أن تعرضي للصدمات النفسية هو ما جعلني أفقد الذاكرة، وعلي أن احاول بطريقة ما تجميع ذكرياتي الماضية”.
تعتمد بعض الحالات الغريبة لفقدان الذاكرة على امال وتوقعات المريض في استرجاعها، فمثلا بعد التعرض لحادث سيارة، تم التصريح عن حالة فقدان الذاكرة بحيث كان التقرير يشير أن المريضة كانت كل ليلة تفقد ذاكرتها ناسية ماحصل معها
خلال اليوم، مع أن هذه الحالات لايوجد لها تفسير طبي، ولكن هذا بالضبط ماحصل لدرو باريمور(Drew Barrymore’s)، التي اخذت دور الفتاة التي تتعرض لحادث سيارة في الفيلم تحت عنوان اول 50 موعد غرامي (first 50 dates)، والذي تم عرضه في عام 2004.
لكن في احداث الفلم عندما قاموا بخداعها ووضع اشياء لها من اليوم السابق وهي ظنت انها من اليوم الذي لاتزال عالقة فيه، لم يكن ادائها جيداً جداً. ولكن الباحثون لم يعتقدوا أن ادائها كان تمارضياً، او بذلك السوء (بالرغم من أن البعض كانوا نقديين اكثر)، ويعتقد الخبراء أن دورها في الفلم قد اعطى لمحة وصورة عن فقدان الذاكرة الناتج من صدمة نفسية.
تعتبر هذه الحالات المرضية لفقدان الذاكرة الفصامي نتيجة لصدمة نفسية نادرة، الاكثر شيوعاً هو فقدان الذاكرة العضوي، والتي تحدث بسبب اصابة او ارتجاج في الدماغ او نتيجة لمرض عصبي، مثل السكتة الدماغية، فعندما يكون المريض في العيادة، عادة لاتكون المشكلة أنه لايتذكر ذكرياته القديمة الماضية، او أنه لايتذكر من هو بل تكمن المشكلة في أنه لايستطيع أن يخزن ذكريات جديدة.
عالقون في الحاضر
هذا النوع من فقدان الذاكرة يسمى فقدان الذاكرة المستقبلي او التقدمي،”Anterograde amnesia” ،والذي يحدث نتيجة لاصابة في المركز الاساسي للذاكرة في الدماغ،”Hippocampus“، وهو الجزء من الدماغ الذي يضم الفص الصدغي ويقع على جانبي الاذن، ويلعب هذا الجزء دوراً مهماً في تخزين الذكريات. ومن اكثر الحالات شيوعاً لفقدان الذاكرة من هذا النوع، الجراحة التي تم عملها للراحل هنري مولاسون،”Henry Molaison“،حيث قام الجراح بإزالة الفص من الدماغ المسؤل عن الذاكرة وذلك كجزء من علاجه لمرض الصرع، تم عمل الجراحة في سنة 1953. العملية ساعدته في وقف مضاعفات المرض، ولكن تركته عالقا في الحاضر يعيش بلاذاكرة جديدة.
بالرغم أنه لم ينسى هويته، ويتذكر ايضاً بعض الاحداث من الماضي. لكن اغلب ذكرياته الجديدة لاتبقى معه اكثر من بضع ثوان معدودة، وتذكر لنا بريندا ميلر”Brenda miler“، والتي درسته لسنوات عديدة، أنها عندما تلتقي به فانه يتصرف معها وكأنه يتعرف على شخص غريب لم يره من قبل. وبعد تناوله للطعام، يعود بعد نصف ساعة ليتناول الطعام من جديد_وايضاً لايستطيع
ان يتذكر ما الذي سيفعله في الدقائق الاخرى المقبلة. واكتشف الباحثون ايضاً أن مولسون لديه قدرة عالية على تحمل الالم،(قاموا بتجربة هذا عن طريق تعريض يد مولسون الى الحرارة، مثل الحرارة الناتجة عن مجفف الشعر). والسبب بذلك أن احساسنا بالالم يعود إلى ذاكرة مخزنة لدينا عن تجربة الم مسبقة، لذا من الممكن أن ذاكرة مولسون عن الالم قد
تاثرت نتيجة لازالة،”amygdalae” وهو الجزء من الدماغ المسوؤل عن تخزين الذكريات المؤلمة التي سبق وأن مررنا بها.
نوع اخر من فقدان الذاكرة العضوي والذي يكون بسبب التعرض لضربة في الراس او ارتجاج، او يكون نتيجة للادمان الشديد على المخدرات، او شرب الكحوليات. بالرغم أن تاثير الكحول يكون عادةً مؤقت، ولكن الشرب المفرط للكحول ولفترة طويلة قد يسبب بما يعرف بمتلازمة كورساكوفز (korsakoffs syndrome)، والذي يؤدي الى فقدان الذكريات الماضية، بالإضافة إلى عدم القدرة على تخزين ذكريات جديدة. وعادة يقوم المريض بملىء تلك الحلقة المفقودة في ذكرياته عن طريق اضافة احداث او قصص_وعادة تكون تلك القصص والاحداث من نسج خيال المريض، ولكن المريض يشعر وكأنها فعلاً حدثت معه.
ومن حالات فقدان الذاكرة الاكثر ندرة، فقدان الذاكرة الوقتي “transient global amnesia“، والتي تحصل نتيجة لهبوط في تدفق الدم من الدماغ ممايؤثر على عمل الذاكرة. والسبب في حصول هبوط في تدفق الدم يختلف كما اشار تقرير تم نشره في عام 2011، والذي تضمن بعض من الحالات مثل الممارسة الجنسية العميقة، فلقد صرحت امراة في 54 من عمرها، أنها قد فقدت ذاكرتها بالكامل لمدة 24 ساعة بعد الوصول الى النشوة في الممارسة الجنسية، والذي يمكننا تسميته وقوع العقل تحت تاثير الجنس.
في الواقع،نحن جميعاً قد تعرضنا لفقدان الذاكرة، فمن النادر جداً لمعظم الناس أن يتذكروا أول ثلاث او أربع سنوات من حياتهم. والامر ليس أننا لانستطيع تخزين هذا الكم من الذكريات بهذا العمر المبكر ،(في سن الثالثة مثلاً سوف يكون الامر جميلا لو تذكرنا بعض من ايام حياتنا المبكرة) ولكن بطريقة ما هذه الذكريات نفقدها اثناء مرورنا بمرحلة الطفولة المتأخرة
والمراهقة. إقترحت دراسة حديثة أن فقدان الذاكرة الطفولية تبد انطلاقاً من عمر السابعة ربما تكون بسبب مرحلة النضوج التي نمر بها فتؤثر سلباً على عمل الذاكرة. ومن الغريب أن هنالك دليل يشير إلى أن بعض حالات فقدان الذاكرة الطفولية تتآثر بالثقافة والبيئة، فالسكان الاصليين لنيوزلندا بمايعرف باسم شعب المايوري”new Zealand maori” عادة تكون ذكرياتهم اكثر بقاءاً من سكان نيوزلندا الذين هم من اصل آوروبي او اسيوي، ربما يكون السبب أن ثقافة شعب المايوري القديم تكثر من رواية القصص والاحداث من الماضي.
تلك الحالات من فقدان الذاكرة المبكرة لا تعتبر بتلك الاهمية، مقارنة بحالات اخرين لديهم فقدان ذاكرة تؤثر على حياتهم، فالكثير منهم يشعرون أن هنالك حلقة مفقودة في حياتهم. فذكرياتنا هي مركز وجودنا، فعلى اساسها قد بنينا شخصيتنا، وعلاقاتنا مع الاخرين، احلامنا وآمالنا ايضاً، فعندما نفقد ذاكرتنا فنحن بالفعل نفقد أنفسنا.