رؤية راديكالية جديدة لميكانيك الكم تُلغي "فقاعات" الأكوان المتعددة (multiverse) الأبدية وتقترح كيفية اقتراب "العوالم العديدة/ many worlds" في الأكوان المتعددة من نهايتها.
الأكوان المتعددة ميتة! تَحيا الأكوان المتعددة
تنصّ النظرة السائدة للأكوان المتعددة على أنّ كوننا عبارة عن واحدٍ من أكوان "فقاعية" متمايزة ومستمرة بالتضخّم. تقوم هذه الفقاعات وبشكلٍ أبدي بولادة أكوان جديدة على شكل أكوان مفردة.
لكنَّ النظرة الجديدة للتأثيرات الكوانتية (quantum effects) –من بنات أفكار Sean Carroll وزملائه من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا –تتحدى هذه الصورة.
هذه النظرة مفيدة جداً بالنسبة لمنظّري ميكانيك الكم أيضاً، فهي تقوم بإلغاء القضايا الشائكة التي تُلازم علم الكون حالياً، بما في ذلك مفارقة محيرة بشكلٍ خاص وتتضمن وجود الوعي غير المتجسد، تُعرف تلك المفارقة بـ "أدمغة بولتزمان-Boltzmann brains".
تأتي رؤية Carroll من طريقة جديدة للنظر في الحركات العشوائية المعروفة بالاهتزازات الكمية (quantum fluctuations).
تُربك الأنظمة الكمية حتى أفضل الحواس الفيزيائية لدينا. تنص النماذج الحالية على أنّ جسيمًا صغيرًا، مثل الإلكترون، لا يتمتع أبداً بموضعٍ محددٍ ودقيق: أفضل ما يُمكننا القيام به هو وصف احتمالية إيجاد الكترون في بقعة معينة، ويُعطى هذا الأمر بوساطة معادلة تُعرف بالتابع الموجي (wave function) للجسيم.
عندما تحاول القيام بقياس ما، "ينهار" التابع الموجي ويأخذ قيمة واحدة (single value) –لكن حتى تلك اللحظة، يهتز موضع الالكترون وأحد الأمور التي تنتج عن مثل "عدم التحديد" هذا هو الاهتزازات الكمية التي تنتج عن الفضاء الفارغ ظاهرياً.
على أية حال، بصرف النظر عن صفاتها الغريبة، أعطت الاهتزازات الكمية السبب الكامن وراء كل نوع من أنواع الوجود. تقترح الدراسات التي ركزت على الضوء الأول الصادر عن الكون، بعد حوالي 380000 سنة من الانفجار العظيم، أن الاهتزازات الكمية في المراحل المبكرة من عمر الكون أدّت إلى جعل المادة أكثر كثافةً في مناطقٍ ممّا هي عليه الحال في مناطقٍ أخرى، الأمر الذي أنتج شبكةً كونية (cosmic web) من المجرات، النجوم، الكواكب وفي النهاية "البشر".
يبدو أنَّ هذا الهياج القوي أدى إلى نتائج مذهلة أخرى. فضمن جزء من الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم، يُعتقد أن الكون عانى من نموٍ انفجاري مفاجئ، يُعرف بـ "التضخم – inflation"، قادته جسيمات كوانتية (quantum particles) تُعرف بالانفلاتونات (inflatons). هذه الجسيمات معرضة بدورها أيضاً للاهتزازات الكوانتية وفي الغالب سيكون كل انفلاتون مشحونًا بشكلٍ عشوائي بطاقة زائدة ليؤدي بذلك إلى ظهور كون فقاعي منفصل إلى حيز الوجود.
ستعاني تلك الفقاعة بحد ذاتها من التضخم أيضاً وتقوم بدورها بخلق فقاعاتٍ أكثر، الأمر الذي يقودنا إلى الأكوان المتعددة الفقاعية (انظر الصورة). بالاعتماد على هذا النهج من التفكير، ما إن يبدأ التضخم، لا يعود باستطاعته أن ينتهي أبداً، وتواصل الأكوان الجديدة الظهور بشكلٍ مستمر –لذلك فهذه الأكوان لانهائية العدد وخالدة.
على الأقل، تلك هي النظرة السائدة. قرَّر Carroll وزملاؤه القيام بإلقاء نظرة أخرى على هذه النظرية لأنّها تقود إلى بعض الأسئلة التي لم تُحل. في مثل تلك الأكوان المتعددة ولانهائية العدد، من المفترض أن أي شيء يمتلك احتماليةً للحدوث، مهما كانت صغيرة، سيحدث بالتأكيد –كل ما عليك القيام به هو الانتظار لوقتٍ كافٍ.
يُشير بعض المنظّرين إلى أن ذلك، ووفقاً للاستنتاج المنطقي الذي تقود إليه تلك المسألة، يؤدي إلى تجّعٍ تلقائي للمادة يَنشأ عنه أدمغة غير متجسدة (disembodied consciousnesses) وتتمتع بوعيٍ ذاتي (self-aware). إنّه نفس النوع من المنطق الذي يقول بأنّ عدداً لانهائياً من القرود مرتبٌ ضمن توزعٍ عشوائي سيقود في النهاية إلى إنتاج الأعمال الكاملة لشكسبير.
يقول Scott Aaronson من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ‘‘يبدو الأمر مشابهاً لقيام طلاب جامعيين في مراحلهم المبكرة بمناقشة أمور مرتفعة المستوى جداً. لا تبدو القضية مسألةً علمية حقيقية. ‘‘
ربّما يكون ذلك صحيحاً، لكن تؤدي أدمغة بولتزمان إلى بعض المسائل الجدية بالنسبة للمنظرين: عند أخذ كامل تاريخ الكون بعين الاعتبار، سيفوق عدد هذه الأدمغة الوعي الجماعي الذي نملكه نحن مثلاً. هذه مشكلة كبيرة جداً لأن النقطة الأولى في فهمنا للكون ولسلوكه تتمثل في أنًّ البشر هم الراصدون وليس الأدمغة غير المتجسدة. ماذا بعد، إنَّ أدمغة بولتزمان غامضة جداً بالنسبة لبعض الناس.
يقول Seth Lloyd من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، ‘‘أعتقد أنّها تفشل في اختبار مونتي بايثون (Monty Python): أوقفوا ذلك! هذا الأمر سخيف جداً! ‘‘
يُخطط Carroll لكتابة ورقة تُبرهن على أنّ أدمغة بولتزمان تُشكل تهديداً حقيقياً، ولكن خلال العملية، وجد Carroll طريقة لإنهائها. كانت نقطة البداية لديه الفكرة التي تقول بأنّ الاهتزازات الكوانتية تعتمد على التفاعلات مع النظام الخارجي أو الجسيم، الذي يُعرف بـ "الراصد" –وهو مفهومٌ مألوفٌ في ميكانيك الكم.
عندما قام Carroll بتطبيق طريقة التفكير هذه على نظرتنا للتضخّم، تغير كل شيء. لا بدّ أن التضخّم سبق كل الجسيمات الأخرى في المراحل المبكرة جداً من عمر الكون، يعني ذلك أنه كان النوع الوحيد من الجسيمات التي وُجدت في ذلك الوقت وبالتالي لا وجود لأي شيء "خالد" يتوجب على الانفلاتونات أن تتفاعل معه. ووفقاً لـ Carroll، في هذه الحالة: لم يخضع الانفلاتون للاهتزازات الكمية.
استمرت هذه الحالة "الوديعة" حتى تفككت الانفلاتونات إلى أنواعٍ مختلفة من الجسيمات العادية، التي يُمكن لها أن تتفاعل مع بعضها البعض. يقول Carroll، ‘‘بعد ذلك، أتت تلك الاهتزازات الكمية في النهاية إلى الحياة. ‘‘
سمح هذا الأمر للاهتزازات الكمية أن تأخذ الدور الحرج والخاص بها في زراعة الشبكة الكونية، لكن في الوقت نفسه تمّ التخلص من الحاجة إلى الأكوان المتعددة لانهائية العدد والتوالد.
مع ذلك، لا تتخلص فكرة Carroll من الأكوان المتعددة بشكلٍ تام ويعود السبب في ذلك إلى أن الرياضيات التي تجعل من الاهتزازات مُعتمدةً على الراصد، تَعتمد بدورها على نظرية "العوالم العديدة – many worlds" الموجودة في ميكانيكا الكم. يعني ذلك: أنّه في كل مرة يُقاس فيها نظام كمي، يتشعب الكون إلى نسخٍ عديدة مختلفة، نسخة لكل نتيجة محتملة. على النقيض من الأكوان المتعددة التي يبدأ فيها كل كونٍ فقاعي انطلاقاً من حلقة ويتطور بشكلٍ مستقل، الأكوان المتعددة الناتجة عن نظرية "العوالم العديدة الكمية" مصنوعةٌ من أقسامٍ متداخلة بدأت جميعها عند نفس الشروط الابتدائية.
يقول Carroll، ‘‘ربّما ربح هتلر الحرب العالمية الثانية في كونٍ مختلف، هذه نتيجة محتملة. ‘‘ويتابع Carroll مؤكداً، ‘‘لكنَّ قوانين الفيزياء هي نفسها. ‘‘
في نظرية Carroll، حتى الأكوان المتعددة المنفصلة يجب أن تصل إلى نهاية. يتوسع الكون عند معدلٍ متسارع، لذلك يعتقد علماء الكون أن "موته" سيتمتع بالكثير من القواسم المشتركة مع "ولادته" مع عدم وجود مادة يُمكن تمييزها وإنّما كل ما هو موجود عبارة عن حقل كمي (quantum field). في تلك الحالة ومن جديد: لن يتواجد راصدون يقومون ببعث الاهتزازات الكمية إلى الحياة.
تؤثر بساطة النظرية على Aaronson، إذ يقول، ‘‘أعتقد أنّه محق تماماً بذلك. أنا مقتنعٌ تماماً. ‘‘
على أية حال، لا يفارق أنصار التضخم الأبدي قصتهم. يقول Lloyd، ‘‘أنا متعاطفٌ جداً مع رغبة Sean بعدم الحصول على أدمغة بولتزمان. ‘‘
مع ذلك، يَعتقد Lloyd وAlan Guth من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا-أحد مؤسسي نظرية التضخم –أنّه من الممكن للأكوان المتعددة والمتوالدة أن توجد حتى لو كانت كل رياضيات Carroll صحيحة، وهما يعملان على تحضير ورقة جديدة لتوضيح ذلك.
حالياً، لا وجود لطريقة معينة من أجل حل هذا الجدل، لكن يقول David Wallace من جامعة أكسفورد بأنه من الممكن لنظرية Carroll أن تؤدي إلى نتائجٍ خاصة أيضاً، فعلى سبيل المثال يُمكنها ان تساعدنا في الحصول على فهمٍ أفضل للطريقة التي تتصرف بها المادة عند المستويات الكمية.
ملاحظات ناسا بالعربي:
(1) دماغ بولتزمان: عبارة عن كيان وعي ذاتي افتراضي ينتج جراء الاهتزازات العشوائية لحالة من الفوضى. تمت تسمية هذه الفكرة نسبةً للفيزيائي لودفيغ بولتزمان. كان بولتزمان يعتقد أن كل الأشياء محتملة في كونٍ لانهائي، حتى التراكم العشوائي للذرات التي تُقلد بدقة الأشياء التي تتطور وفقاً للسبب والنتيجة، مثل أدمغتنا. في مكان ما من الأكوان، أدى الخلط العشوائي بين الجزيئيات إلى إنتاج دماغ مطابق لدماغ إنسان ما من جميع الوجوه. يُمكن لأدمغة بولتزمان أن تصبح كثيفة جداً وإذا سيطرت على الأكوان، سيصبح البشر نادرين، لذلك فإن وجودنا الفعلي يدل ضمناً على أن الكون الصالح للسكنى يجب أن يكون شاباً بما يكفي لكبح بقايا تركيبة أدمغة بولتزمان.
طبعاً هذا الموضوع شائك ويحتاج إلى الكثير من الشرح والتفصيل وسنتعرض له لاحقاً بالتفصيل.
المصدر